كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال- الذين ينشأون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب. إما لأنه ضعيف الشخصية، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر. وإما لأنه مفقود: لوفاته- أو لعدم وجود أب شرعي!- قلما ينشأون أسوياء. وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما، في تكوينهم العصبي والنفسي، وفي سلوكهم العملي والخلقي..
فهذه كلها بعض الدلائل، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها!
ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا- في سياق الظلال- عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها، وضرورتها وفطريتها كذلك.. ولكن ينبغي أن نقول: إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني؛ ولا إلغاء وضعها المدني- كما بينا ذلك من قبل- وإنما هي وظيفة- داخل كيان الأسرة- لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها. ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها. فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله.
وبعد بيان واجب الرجل وحقه والتزاماته وتكاليفه في القوامة، يجيء بيان طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة وسلوكها وتصرفها الإيماني في محيط الأسرة: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله}..
فمن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون.. قانتة.. مطيعة. والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات. ولم يقل طائعات. لأن مدلول اللفظ الأول نفسي، وظلاله رخية ندية.. وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة. في المحضن الذي يرعى الناشئة، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته!
ومن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته- وبالأولى في حضوره- فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة- بله العرض والحرمة- مالا يباح إلا له هو- بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة.
وما لا يباح، لا تقرره هي، ولا يقرره هو: إنما يقرره الله سبحانه: {بما حفظ الله}.
فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها- في غيبته أو في حضوره- ما لا يغضب هو له. أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله..
إن هنالك حكمًا واحدًا في حدود هذا الحفظ؛ فعليها أن تحفظ نفسها {بما حفظ الله}.. والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر. بل بما هو أعمق وأشد توكيدًا من الأمر. إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله، هو من طبيعة الصالحات، ومن مقتضى صلاحهن!
وعندئذ تتهاوى كل أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات. أمام ضغط المجتمع المنحرف. وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب: {بما حفظ الله} مع القنوت الطائع الراضي الودود..
فأما غير الصالحات.. فهن الناشزات. (من الوقوف على النشز وهو المرتفع البارز من الأرض) وهي صورة حسية للتعبير عن حالة نفسية. فالناشز تبرز وتستعلي بالعصيان والتمرد..
والمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل، وتعلن راية العصيان؛ وتسقط مهابة القوامة؛ وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين.. فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي. ولابد من المبادرة في علاج مبادئ النشوز قبل استفحاله. لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير. ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها؛ وتشرد للناشئين فيها؛ أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية... وإلى الشذوذ..
فالأمر إذن خطير. ولابد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد.. وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد، أو من الدمار، أبيح للمسئول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المصلحة في حالات كثيرة.. لا للانتقام، ولا للإهانة، ولا للتعذيب.. ولكن للإصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن. واهجروهن في المضاجع. واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. إن الله كان عليًا كبيرًا}..
واستحضار ما سبق لنا بيانه من تكريم الله للإنسان بشطريه. ومن حقوق للمرأة نابعة من صفتها الإنسانية.. ومن احتفاظ للمرأة المسلمة بشخصيتها المدنية بكامل حقوقها.. بالإضافة إلى أن قوامة الرجل عليها لا تفقدها حقها في اختيار شريك حياتها؛ والتصرف في أمر نفسها والتصرف في أمر مالها.. إلى آخر هذه المقومات البارزة في المنهج الإسلامي..
استحضار هذا الذي سبق كله؛ واستحضار ما قيل عن أهمية مؤسسة الأسرة كذلك.. يجعلنا نفهم بوضوح- حين لا تنحرف القلوب بالهوى والرءوس بالكبر!- لماذا شرعت هذه الإجراءات التأديبية أولًا. والصورة التي يجب أن تؤدى بها ثانيًا.
إنها شرعت كإجراء وقائي- عند خوف النشوز- للمبادرة بإصلاح النفوس والأوضاع، لا لزيادة إفساد القلوب، وملئها بالبغض والحنق، أو بالمذلة والرضوخ الكظيم!
إنها.. أبدًا.. ليست معركة بين الرجل والمرأة. يراد لها بهذه الإجراءات تحطيم رأس المرأة حين تهم بالنشوز؛ وردها إلى السلسلة كالكلب المسجور!
إن هذا قطعًا.. ليس هو الإسلام.. إنما هو تقاليد بيئية في بعض الأزمان. نشأت مع هوان الإنسان كله. لا هوان شطر منه بعينه.. فأما حين يكون هو الإسلام، فالأمر مختلف جدًا في الشكل والصورة. وفي الهدف والغاية.. {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن}..
هذا هو الإجراء الأول.. الموعظة.. وهذا هو أول واجبات القيم ورب الأسرة. عمل تهذيبي. مطلوب منه في كل حالة: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة}. ولكنه في هذه الحالة بالذات، يتجه اتجاهًا معينًا لهدف معين. هو علاج أعراض النشوز قبل أن تستفحل وتستعلن.
ولكن العظة قد لا تنفع. لأن هناك هوى غالبًا، أو انفعالًا جامحًا، أو استعلاء بجمال. أو بمال. أو بمركز عائلي.. أو بأي قيمة من القيم. تنسي الزوجة أنها شريكة في مؤسسة، وليست ندًا في صراع أو مجال افتخار!.. هنا يجيء الإجراء الثاني.. حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى، ترفع بها ذاتها عن ذاته، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة.
{واهجروهن في المضاجع}..
والمضجع موضع الإغراء والجاذبية، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها. فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها. وكانت- في الغالب- أميل إلى التراجع والملاينة، أمام هذا الصمود من رجلها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه، في أحرج مواضعها!.. على أن هناك أدبًا معينًا في هذا الإجراء.. إجراء الهجر في المضاجع.. وهو ألا يكون هجرًا ظاهرًا في غير مكان خلوة الزوجين.. لا يكون هجرًا أمام الأطفال، يورث نفوسهم شرًا وفسادًا.. ولا هجرًا أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزًا. فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة؛ ولا إفساد الأطفال! وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء..
ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح كذلك.. فهل تترك المؤسسة تتحطم؟ إن هناك إجراء- ولو أنه أعنف- ولكنه أهون وأصغر من تحطيم المؤسسة كلها بالنشوز: {واضربوهن}..
واستصحاب المعاني السابقة كلها؛ واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات كلها يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيبًا للانتقام والتشفي. ويمنع أن يكون إهانة للإذلال والتحقير. ويمنع أن يكون أيضًا للقسر والإرغام على معيشة لا ترضاها.. ويحدد أن يكون ضرب تأديب، مصحوب بعاطفة المؤدب المربي؛ كما يزاوله الأب مع أبنائه وكما يزاوله المربي مع تلميذه.
ومعروف- بالضرورة- أن هذه الإجراءات كلها لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في المؤسسة الخطيرة. وإنما هي لمواجهة خطر الفساد والتصدع. فهي لا تكون إلا وهناك انحراف ما هو الذي تعالجه هذه الإجراءات..
وحين لا تجدي الموعظة، ولا يجدي الهجر في المضاجع.. لابد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر، ومن مستوى آخر، لا تجدي فيه الوسائل الأخرى.. وقد تجدي فيه هذه الوسيلة!
وشواهد الواقع، والملاحظات النفسية، على بعض أنواع الانحراف، تقول: إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وإصلاح سلوك صاحبه.. وإرضائه.. في الوقت ذاته!
على أنه من غير أن يكون هناك هذا الانحراف المرضي، الذي يعينه علم النفس التحليلي بالاسم؛ إذ نحن لا نأخذ تقريرات علم النفس مسلمات علمية، فهو لم يصبح بعد علمًا بالمعنى العلمي، كما يقول الدكتور ألكسيس كاريل، فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب نفسها أن تجعله قيمًا وترضى به زوجًا، إلا حين يقهرها عضليًا! وليست هذه طبيعة كل امرأة. ولكن هذا الصنف من النساء موجود. وهو الذي قد يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة.. ليستقيم. ويبقي على المؤسسة الخطيرة.. في سلم وطمأنينة!
وعلى أية حال، فالذي يقرر هذه الإجراءات، هو الذي خلق. وهو أعلم بمن خلق. وكل جدال بعد قول العليم الخبير مهاترة؛ وكل تمرد على اختيار الخالق وعدم تسليم به، مفض إلى الخروج من مجال الإيمان كله..
وهو سبحانه يقررها، في جو وفي ملابسات تحدد صفتها، وتحدد النية المصاحبة لها، وتحدد الغاية من ورائها. بحيث لا يحسب على منهج الله تلك المفهومات الخاطئة للناس في عهود الجاهلية؛ حين يتحول الرجل جلادًا- باسم الدين! وتتحول المرأة رقيقًا- باسم الدين!- أو حين يتحول الرجل امرأة؛ وتتحول المرأة رجلًا؛ أو يتحول كلاهما إلى صنف ثالث مائع بين الرجل والمرأة- باسم التطور في فهم الدين- فهذه كلها أوضاع لا يصعب تمييزها عن الإسلام الصحيح ومقتضياته في نفوس المؤمنين!
وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز- قبل استفحالها- وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها، فور تقريرها وإباحتها. وتولى الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته العملية في بيته مع أهله، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك، وتصحيح المفهومات في أقوال كثيرة:
ورد في السنن والمسند: «عن معاوية بن حيدة القشيري، أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت. ولا تضرب الوجه. ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت».
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماء الله».. فجاء- عمر رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن! فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن.. ليس أولئك بخياركم».
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يضرب أحدكم امرأته كالعير يجلدها أول النهار. ثم يضاجعها آخره» وقال: «خيركم خيركم لأهله. وأنا خيركم لأهلي».
ومثل هذه النصوص والتوجيهات؛ والملابسات التي أحاطت بها؛ ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية مع توجيهات المنهج الإسلامي، في المجتمع المسلم، في هذا المجال. وهي تشبه صورة الصراع بين هذه الرواسب وهذه التوجيهات في شتى مجالات الحياة الأخرى. قبل أن تستقر الأوضاع الإسلامية الجديدة، وتعمق جذورها الشعورية في أعماق الضمير المسلم في المجتمع الإسلامي..